لم يكن فتح مصر عشوائيًّا، وإنما كان ذلك بخطة محكمة ودراسة مسبقة، ويرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل؛ منها ما هو ديني أو عسكري أو سياسي أو اقتصادي أو غير ذلك.
1- الدافع الديني:
يتمثل هذا الدافع في رغبة المسلمين في الاضطلاع بأعباء الدعوة الإسلامية العالمية، وضرورة أداء أمانة تبليغها إلى العالمين لإبراء الذمة أمام الله U، وقد سبق للمسلمين في عهد الرسول r دعوة المقوقس إلى الإسلام سلميًّا، فقد أرسل له النبي r الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة، وكذلك أبو بكر الصديق t أرسل إليه حاطبًا مرة أخرى، وفي عهد عمر بن الخطاب t أرسل إليه كعب بن عدي بن حنظلة التنوخي، فما كان من المقوقس إلا أن اكتفى بالرد الحسن.
ولما كانت مصر خاضعة للإمبراطورية البيزنطية كان من الضروري مواجهة جند هذه الإمبراطورية على أرض مصر؛ ذلك أنهم يحولون بين المصريين وبين الدخول في الإسلام.
لقد تطلع المسلمون إلى فتح مصر بعد ورودها في كثير من المواضع في القرآن الكريم عند التعرض لقصص الأنبياء الأولين، وتبشير النبي r صحابته بفتحها وتنويهه بجندها، وتوصيته بأهلها خيرًا، ومن أجل ذلك كله حرص المسلمون على فتحها.
2- الدافع العسكري:
كان هذا الفتح طبيعيًّا لأن مصر هي الامتداد الطبيعي الجنوبي لفلسطين، كما أن فتح ما فُتِحَ من مدن فلسطينية قد أجهد البيزنطيين، ولا بد من ضربة قاصمة لوجودهم في هذه الأماكن الجنوبية فكان ذلك.
ومن ناحية أخرى فإن "أرطبون" قائد بيت المقدس قد انسحب منها بنظام إلى مصر لإعادة المقاومة، ودفع المسلمين عن الشام ثانية، ولذلك استدعى الأمر مباغتة هؤلاء والإيقاع بهم قبل تزايد خطرهم واستعمال قوتهم.
كما أن الاستيلاء على ما في مصر من ثغور وسفن سوف يمكِّن المسلمين من إخضاع مدن الشام الشمالية الواقعة على البحر المتوسط، والتي كانت لا تزال تقاوم المسلمين، ففتح مصر ضرورة حربية ملحة تكميلاً لفتح بلاد الشام؛ لأن الإمبراطورية البيزنطية كانت تسيطر على الشام ومصر وبلاد المغرب، وتلك البلاد -عسكريًّا- تعد منطقة واحدة؛ إذ إن فتح جزء منها يستلزم فتح الأجزاء الأخرى نتيجة التعرض للصدام مع عدو واحد يحتلها.
وكذلك كان من الممكن عند إغفال فتح مصر مهاجمة البيزنطيين دار الخلافة عن طريق البحر الأحمر، فتهبط قواتهم إلى ميناء جدة أو الجار، وتتم مهاجمة الحجاز.
وكان من دواعي فتح مصر أيضًا أن البيزنطيين حاولوا استرداد الشام من المسلمين، وأرادوا عرقلة جهودهم للتوجه جنوبًا، وهاجموهم من شمال الشام، فشعر المسلمون أنهم محاصرون بين قوات بيزنطة في آسيا الصغرى وقواتهم في مصر.
أضف إلى ذلك أيضًا سهولة فتح مصر الذي لن يكلف العرب المسلمين سوى القليل من الأرواح والأموال؛ لقلة التحصينات بها.
كما أن معرفة عمرو بن العاص t لمصر ودرايته بها، وهو القائد المختار لفتح البلاد، وَفَّرَ على المسلمين كثيرًا من المعاناة والتكاليف. إضافة إلى أن أغلب الجند الذين اشتركوا في الفتح كانوا من العناصر اليمنية، وأغلبهم من قبيلتي غافق وعك على وجه الخصوص، وهؤلاء اليمانية مهروا في قتال الحصون الساحلية، واشتركوا مع عمرو في فتح الحصون ببلاد الشام، فهم أقدر الناس على فتح مصر ومعالجة شئونها العسكرية، كما كانوا على دراية ببناء المدن واختطاطها، والإلمام بالزراعة، فهم من هذه الناحية العسكرية أقدر الناس على تفهم أمور مصر ومعالجة شئونها.
3- الدافع السياسي الاقتصادي:
وهو يتعلق بما تَجَمَّع لدى المسلمين من معلومات عن أوضاع مصر السيئة في ظل حكم البيزنطيين، وما تَرَدَّتْ إليه أوضاعها الاقتصادية نتيجة المظالم المادية، والنهب المنظم لثروات البلاد لصالح الغرباء عنها.
ويُضَافُ إلى ذلك الصراع الديني المذهبي الذي أَجَّجَ العداوة والأحقاد بين عامة الشعب من القبط، وبين البيزنطيين.
أدرك المسلمون ذلك كله، وأدركوا معه غنى مصر وثراءها، وعلموا أن ضمها إلى بلدان الإسلام يضمن انتعاشًا في اقتصاد المسلمين، ويوفر لهم الأموال التي تساعد على مزيد من الفتوح، إضافة إلى أن مصر كانت مركزًا رئيسيًّا لتمويل بيزنطة بالقمح، ومع انهيار الجيش البيزنطي، وما حَلَّ بمصر من ضعف وانقسام كانت الفرصة مواتية للإقدام على فتح مصر.