الدجى يحضن أسوار المدينة
و سحابات رزينه
خرقتها مئذنة ....
و رياح واهنة
ورذاذ ، و بقايا من شتاء
***
.... و تلاشى الصمت في وقع حوافر
و ترامى الصوت من تلّ لآخر
في المقطّم
و بدا في الظلمة الدكناء فارس
يتقدّم .. !
و بدا في البرج حارس
و جهة في المشغل الراقص أقتم
متجهّم !
ثمّ نّت في فراغ البرج صيحه
ثمّ دار الباب في صوت شديد
باب قلعة
فيه آثار و ماء و صدأ
و اختفى الفارس في أنحائها ،
صاعدا يحمل " للباشا " النبأ
" المماليك جميعا في المدينة ! "
***
ثمّ يمتدّ السكون ،
و الدجى يحضن أسوار المدينة
و سحابات رزينه
خرقتها مئذنه ...
و رياح واهنة
تتلوّى في تجاويف الحواري
حيث ما زال المنادي ،
يتلوّى في الحواري ،
راجفا في الصمت .. " يا أهل المدينة :
في البكور
سوف يمضي جيش " طزسن "
ابن والينا الكبير
للحجاز
لقتال الكافرين الخارجين
عن موالاة أمير المؤمنين
ساكن البسفور ، حامي الأستانه
وطلول شركسية
ودمن ..
ضيعت أنسابها أيدي الزمن
وعفن ،
وبيوت ، وصخور ، وتراب
نام فيها الجوع واسترخى الذباب
وصلاة خافته
وكلاب ، وفراخ ميّته
والحواري ساكته
غير شحاذ يغني للقلوب المؤمنه
ورياح واهنه
تتلوّى في الحواري الحجريه
ثم تمضي في دروب الأزبكيه
في مياه البركة الخضراء تهوي
حيث يبدو قصر مملوك جميل
روع الافرنج في يوم طويل
عندما شدوا الخيول
لتبول
فوق صحن الأزهر المعمور ! لا كانت تعود
عندما شدوا الخيول
وأمين بك
آه هذا الفارس الشهم النبيل
قال : (( هيا يا جنود الله يا أهل المدينه
أنا منكم ودمي من قمحكم،
وجراحي قطرة من جرحكم،
وقراكم موطني . اني غريب
قد رعاني ذلك الوادي الخصيب
فانهضوا وامضوا معي
نغسل العار يكأس مترع
من دمائي ودماكم !))
آه .. ما أروع أصوات الجموع
عندما سارت اليه كالدموع
(( يا أمين بك ! أنت منا وتربيت هنا !
وانبرى بائع أثواب قديمه
قائلا (( هيا بنا !))
.. أوه .. لا كانت تعود !
الدجى ما زال يجتاح المدينه
ونباح من بعيد ،
وزعيق الحارس المقرور يدوي
ورياح الليل تمضي بالهشيم ،
حيث يهوي .
في مياه البركة الخضراء يهوي
ونباح من بعيد ،
من بعد
يختفي .
في الصباح الراجف
وتدق الشمس ابواب المدينه
(( يا كريم .. ))
قالها السّقا على بيت قديم
ويموج السوق بالذكر الحكيم
ويحيّي الناس درويش صبوح
تحت يمناه تدّلت مبخره
تنفخ السوق غيوما عاطره
ثم يمضي ويصيح
(( يا كريم ! ))
ومشت في المشربيّات العتاق
ضحكات ناعمات
لجوار حالمات
بحرير ، وعطور ، وانطلاق
وضجيج ونكات .
كل لمحه
كل صيحه
ولو الصيحة فرحه
خلفها حزن عريق
صوت بوق !
ـ (( عسكر الباشا ! )) وينسد الطريق ،
بخليط ،
من بلاد الأرتاؤوط
وبلاد الصرب ، والأتراك .. من كل البلاد
ـ (( وسعوا يا ناس للركب ! )) وينسد الطريق
ويثيرون الغبار
عالم يركب بغله
تتهادى في وقار
نقلة في إثر نقله
تقصد القلعة للمحتفلين
والمماليك بدوا فوق الخيول العربيه
بالثياب الموصليّه
والفراء السيبريّه
ببقايا عزّهم .. مثل الشهب
يغصبون الابتسام
ويدارون الغضب
وجموع الناس ترنو وتشير
ـ (( آه يا عيني .. لقد أضحوا يتامى مثلنا ! ))
ـ (( ما لهم في الأمر شيء مثلنا ! ))
وأشار الناس في وجه أمين بك ثم قالوا ،
ـ ((ذلك الوجه القمر
ذلك الشهم النبيل
روّع الافرنج في يوم طويل ! ))
***
وتهادى الركب للقلعة هونا
يصعد التل إلى القلعة هونا
صوت بوق !
ثم رنت في فراغ البرج صيحه
ثم دار الباب في صوت شديد
باب قلعه !
فيه آثار دماء وصدأ
ومضى كل المماليك يغذون الخطى
ويثيرون الصدى
بين أسوار وابراج رهيبة
دخلوا القلعة ثم التفتوا في بعض ريبه
فاذا بالباب يرتد هناك !!!
واذا صوت الجموع
صادر من خلف باب .. من هناك
(( اطلقوا ! ))
قالها قائد جند الارناؤوط
(( اطلقوا !))
فالنار تهوي كالخيوط
كالمطر
زغردات مستريبه
تتردى بين أسوار وأبراج رهيبه
(( آه يا نذل لقد خنت … )) ويهوي كالحجر
ورصاص كالمطر
وجنود الاناؤوط
من قريب وبعيد
من عل .. من تحت .. أيدي اخطبوط !
تطلق النار ، فكم خرّ حصان
ملقيا سيده فوق الدماء
فترش السقطة الجدران دم
وألم
(( آه يا نذل .. )) ويهوي كالحجر
والخيول
حمحمات وصهيل
ترفس الصخر فينطق الشرر
والصّخب
(( أنت محصور فخذها ))
(( لا تفكّر في الهرب))
(( أنت ودعت الحياة! ))
ثم يهوون كسنبل
تحت منجل
(( آه يا ما أصعب الميتة من كف الجبان ! ))
وأمين بك جانب السور وفي يمناه سيفه
هل يفيد السيف .. آه لن يفيد
(( يا مماليك أيا أبهة العصر المجيد
قد مضيتم ! ))
قالها واغرورقت عيناه بالدمع الوئيد
والتقت عيناه في عيني شهيد
ثم يعدو بحصانه ،
يعتلي السور ويرنو فاذا الأرض بعيد
ثم تلقي عينه دمعا على وجه الحصان
في حنان
(( يا حصاني طر بنا ))
وإذا الفارس في السحب عقاب
يتهادى شاهرا في الجو سيفه
معطيا للشمس أنفه
تاركا للريح أطراف الثياب
كإله وثني يتمشى في السحاب
فاذا ما قارب الأرض قفز
والحصان
صار أشلاء على ظهر التلال
(( قد نجا منهم أمين بك يا رجال !))
قالها الناس على ظهر التلال
ومضوا كالدافنين
ثم يمتد السكون
وحصان يهبط القلعة وحده
مطرقا يمضغ في صمت حزين
أغنية في الليل اكتوبر ـ 1957
لو أننا تحت المساء زهرتان ،
عاريتان ،
أحستا بالبرد فجأة ، بنقلة الزمان
فاهتزتا ، ومالتا ،
حتى تلاقى الشوك والندى ،
وغيم الشذى على المكان !
***
الليل يا حبيبتي …
أغنية ،
دافئة المعان ،
رقصة مهرجان ،
تجمع ريح الشرق ، والشمال .. في مكان ،
تثير في كل حياة شوقها لغيرها ،
فتلعق الأرض أصابع الزروع ،
وتحبل الرياح ،
وينعس المنقار في الجناح ،
وينزل المطر !
***
حبيبتي ..
ماذا علينا لو رأى القمر ؟
----------
( ديسمبر1955)